حين تكشفك قممك

الصعود لا يبدأ من القمم، بل من الداخل. لحظة تختار أن تتحرر من نسخة قديمة منك، وتقرر أن تُعيد ترتيب نفسك، تبدأ الأرض من تحتك في التغيّر، ومعها تتبدّل ملامح من يحيطون بك. عندها فقط يظهر الفرق بين من كان سندًا بحب، ومن كان مجرد ظلّ يستمد قوته من ضعفك.
يقول الشاعر: «إذا اعتليتَ إلى السَّما، سقطَ الذينُ بنَوا على وهْنِكَ الدُّنُوّا». هذه العبارة تختصر حقيقة نفسية عميقة: أن كل ارتقاء ذاتي يُعيد رسم خريطة العلاقات من حولك. من كان معك بدافع المصلحة سيسقط، ومن كان معك بدافع المحبة سيصعد معك.
خيانة المرآة في علم النفس، هذه الظاهرة تُسمّى الاعتمادية غير المتكافئة (Asymmetrical Dependency). بعض العلاقات تُبنى على توازن هش: طرف يحتاج الآخر أكثر مما يحتاجه الثاني. وحين ينكسر هذا التوازن بسبب ارتقاءك، يسقط القناع.
الأمر أعمق من مجرد شعور. في علم النفس العصبي، التغيير الشخصي لا يقتصر على أفكارك، بل يمتد إلى دوائر عصبية كاملة في الدماغ. من أهمها الخلايا المرآتية (Mirror Neurons)، التي تجعل الآخرين يقرأونك كأنهم ينظرون في مرآة. وحين تتغيّر، فإن هذه «المرآة» تخونهم؛ لم يعودوا يجدون النسخة المألوفة منك، فيرتبكون، وقد يشعرون بالتهديد.
من أنت أم من حولك؟
علم النفس الاجتماعي يضيف زاوية أخرى: النهضة الفردية لا تكشف فقط عن هويتك الجديدة، بل تكشف عن حقيقة الآخرين.
الداعم الحقيقي يزداد فخرًا بك، يرى في نجاحك انعكاسًا لما يؤمن به فيك. أما المتسلق الذي استند إلى ضعفك، فينهار مع أول خطوة ترتقيها بعيدًا عنه.
لا ذنب في النمو
لهذا لا تُثقِل ضميرك بالذنب ولا تُحمّل قلبك ما لا يحتمل. لم تؤذِ أحدًا حين اخترت أن تكبر. الحياة بطبيعتها حركة: أناس يرحلون، وأناس يدخلون، وما يبقى حقًا هو نقاء المسار.
الصعود لا يعني أنك تركت الآخرين خلفك، بل يعني أنك اخترت أن تكون صادقًا مع ذاتك. وإن سقط من حولك، فليس لأنك دفعتهم، بل لأنهم لم يجدوا مكانًا في الارتفاع.
لذلك «القمم ليست امتحانًا لطموحك فقط، بل امتحان لدوائرك القريبة. من أحبك لصوتك سيختفي حين يتغير لحنك، ومن أحبك لذاتك سيظل يصفّق لك مهما تغيّرت النغمة»
فلا تخشَ الوحدة التي يفرضها الصعود، إنها ليست فراغًا بل نقاء. القمم تكشفك، نعم، لكنها تكشف من حولك أكثر.