غُربة قارئ !

سأحكِي لكُم اليوم قصّة ..
ليست مُقتبسةً من كتاب ، ولا من مُخيّلة أحدهم ، إنها واقعٌ لامسه أحدهُم .. وأراد مُشاركته !
قصة بطلُها .. ” قارئٌ مغترب ” وسط مُجتمعه – الصغير – ..
وشخصياتُها .. مُجتمعٌ حوله لا يقرأ ..
نشأ القارئ غريبًا ، يبحثُ عن ما يلتهمه .. يبحثُ هنا وهناك .. جائعٌ للمعرفة لا للطعام ..
كان لا تسقطُ عينه على كتاب إلا وينشرحُ فؤاده الصغير سعادةً وفرحًا .. ويبدأ في التهامه !
لم يبدأ قارئًا لـ سيرة ابن هشام ، ولا لقصص كليلة ودمنة ، ولا للبداية والنهاية لابن كثير !
بدأ قارئًا يلتهمُ قصص التاريخ – الطفولية – وهو فِي مُقتبل العمر ..
قرأ عن الأنبياء عليهم السلام ، فالصحابة رضوان الله عليهم ، فـ علماء المسلمين – كالخوارزمي والرازي وجابر بن حيان – ..
كان الكتاب الذي يقرأه لا يتجاوز 30 صفحة .
كَبُرَ الغلام ..
وكَبُرَت معه رغبته في العلم والمعرفة ، أراد الانتقال من قصص التاريخ الطفولية إلى كُتب الأدب المعاصرة البسيطة ..
أخذ يقرأ كتبًا لا تتجاوزُ 100 صفحة .. ثم توسّع وتوسّع الفتى حتى بدأ يقرأ كتبًا ذات 500 صفحة ..
كان يشعرُ بالغربة ، وحيدٌ يقرأ .. لا يجدُ من يفتحُ له عقله ويُساعده في التوسع في القراءة ..
ينكسرُ فؤاده كلما تذكّرَ أنه قارئٌ غريب.. نشأ في صدره جُرحًا غائرًا يحمله معه أينما رحل ..
كُلّما همَّ بالقراءة .. اختبأ بينَ جنباتِ غرفته الصغيرة ..
كان يتوسدُ الليل بُكاءً على غُربته وما يأتيه من مُضايقات ..
تساقطت العبرات من عينه حتّى جفّت !
أدرك حينها أنه إذا بقي على حاله لن يُفِيدَ أحدًا .. ولا حتى نفسه !
قرر يومًا أن يفرض نفسه على من حوله ..
بعدما أن كان يقرأ في الخفاء ، قرر أن يخرجُ للعلن مُحتضنًا كتابه يُقلّب صفحاته ويلتهمُ معلوماته ..
تجمّع حوله نفر .. منهم من شجّعه ومنهم من أسقطَ بهمّته ويظلُّ هو مبتسمًا رغم ألمه ..
يومًا بعد يوم ، أصبح يسألُ كل من يشجعه :
– هل أنت قارئ يا سيدي ؟
كانت الإجابات مختلفة .. لكن جميعها مُجتمعة على أنهم لا يقرؤون وإن قرؤوا قرؤوا كتابًا ولم يُكملوه ..
لَمِسَ الفتى رغبة هؤلاء في القراءة ، شعر وكأنهم يريدُون القراءة لكن لا يعلمُون كيف يخطُون الخطوة الأولى ..
أخذ يُفكّر طويلًا كيف يستطيع مساعدة هؤلاء ..؟
قرر أن يقفَ بجانبهم جميعًا – من يكبرهم سنًا ويصغرهم – ..
أخذ يُعيرهم الكتب التِي كان يقرأها وانتهى منها .. أخذ يسأل في كل مرةٍ يُقابل فيها أحدهم..
– كم صفحةً قرأت ؟
– أشعرت بـ الملل من القراءة ؟
وكان يناقشهم ويأخذُ آرائهم فيما يقرؤون .. كان يحثّهم ويشجعهم على القراءة بإحساس صادق ..
استطاع أن يُوصل مشاعره إليهم .. أخذُوا يحذون حذوه .. حتى الكبار ! أصبحُوا يقتدون به وهو لم يتجاوز الـ 20 من عمره .
رويدًا رويدًا تجمّع لديه مع الزمن مُجتمعٌ صغيرٌ يقرأ ..
طلب ممن ساعدهم على القراءة .. أن يُساعدوا غيرهم .. توسّعت الدائرة !
تكوّن لديه مُجتمعٌ قارئ ينمُو مع الزمن .. بعدما كان وحيدًا يحتضنُ كتابًا .. أصبح قائدًا مُؤسساً لـ مُجتمعٍ صغير قارئ ..
شعرَ الفتى بـ نشوة الإنجاز .. ابتسم – ابتسامة نبعت من القلب – لأول مرة في حياته !
لم يتوقف الفتى عند هذا الحد .. أرادَ أن يُشارك غيره ما يقرأ .. كُلما قرأ اقتبس مما يقرأه ونشره في الشبكات الاجتماعية ..
شاركَ غيره المعلومات ، أفاد غيره .. وأفاد نفسه!
ثقّفَ مُجتمعه .. ورسّخ المعلومة في ذهنه ومنذ ذلك الحين لم ينسى اقتباساته ..!
كان لدى الفتى إخوةٌ صغار لم تتجاوز أعمارهم الـ 13 عامًا ..
أحدهم كان يكره القراءة ولا يحبها ! والآخر كان يريد القراءة ولم يعرف كيف يبدأ ..
جلبَ لأخوته كُتبًا تناسبُ أعمارهم .. أخذوا يقرؤون !
من كان يكره القراءة .. أخذ يقرأ لكن خلف أنظاره .. والآخر يأتيه كل يومٍ مُخبرًا إياه كم صفحةً قرأ ..
ولا يزالُ إلى اليوم يستثمرُ في هؤلاء .. يرى فيهم أملاً ومُستقبلاً مُبهرًا ..
استطاع الفتى أن يتحول من قارئ غريب .. إلى قائدٍ وقدوة لمن حوله في القراءة وهو لم يتجاوز الـ 20 عامًا بعد ..
تجربةُ الفتى .. نمُوذجٌ لما نصبُوا إليه ..
علينا كقراء ألا نكتفي بالقراءة وحسب .. بل نشر هذه الثقافة .. أن نشارك غيرنا ما نملُك من كتب ومعلومات ..
أن نتكاتف ونُشجّع بعضنا بعضًا .. أنت تُعلم هذا وهذا يُعلم ذاك .. وتتسع الدائرة !
حتى نصل إلى أمةِ اقرأ .. التِي تقرأ !
وكُلّ شيءٍ يبدأ صغيرًا .. وينمُو مع الزمن .

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *