روما ولعنة العسكر ( الجزء الثاني )

لقراءة الجزء الأول: روما ولعنة العسكر (الجزء الأول)

الثاني وعشرين من كانون الثاني من نفس العام – سجن روما المركزي

نُقلت لأحد السجون الإصِلاحية في روما بعد إنهاء التحقيق معي ، ومايُشغل بالي هو أكوسطو فمازلت أجهل مكانه ، التصّبر قليلاً قد يعفيني من مخاطر الهلوسة ، أنا وعقلي نفذنا من التفكير .. التفكير إنتهى وأخشى من فقدان السيطرة على إنفعالاتي .. قد أعذر من أنذر هذه الجملة كانت سبباً في حرماني من غداء نهار الثاني والعشرين من كانون الثاني ، الحارس وضعني في لائِحته السوداء بالإضافة لحرماني من الحصة الرياضية في الخامسة عصراً

مضى ذلِك اليوم ليست كما ينبغي ، لا أخفيكم أني كنت قد جندلت آمالي على أن يبحث عني ربُ عَملي لكني كنت أدري أنه لن يفعل .. أنا قاب قوسين أو أدنى من تلقي تهمة التزوير التي بالأساس لم أقترفها ولكنها جُيرت لي بالتربص والمكيدة .. في السجن ستتعلم يارفيقي نِعمة وفضيلة الحُرية .. في السجن أصبحت أستيقظ في الخامسة ماقبل شروق الشمس لأنظف حاوية القمامة الرئيسية ولأعمل على مشروع النجارة بصحبة بقية السجناء ، وأنتهي في السابعة من كل يوم لأذهب للحصة الإصلاحية للإستماع لـ محاضرة الفلاسِفة حتى الثانية عشر ، هذا جدولي الذي أشَعل الشيب في رأسي وحطم إيماني بوجود الرحمة في قلوب بني البشر

مرت الأيام وأناً أتجرع الصبر الكاذب ، أنتظر مرور رب عملي أو على الأقل أن تأتي أمي لتعزف لي لتخفف عني ، أو أن أرىّ أبي في المنام ليسندَ لي ظهري الذي كُسر ولا جابر لهَ ، في السجن تلين المشَاعر ويخفق القلب لما وراء الجدران ، ساحات روما ومقاهيها ، مكتبة الجامعة وسهرات الألف ليلة وليلة في مارثون الثيران ، تِلك الأماني تتهاوى أمام وحشية السجن المركزي في روما ، أنت في أبشع الأماكن وأكثرها سوداوية ، جاع زعيم الإصلاحية فله الحق بأكل طبق طعامك ، مل فُلان فأصبحت أنيسه رغُم أنفك ، ضحكوا عليك في أوجّ ضياعِك أنت أمام مملكة دستورهاَ الشرعي أن لاحق للسجين الهزيل ، كل الحق للجبابرة لـ الرب الشكوىّ وإليهِ المصير

إستيقظت في صباح التاسع والعشرين من كانون الثاني مدافعاً عن نفسي في قضية تحرشّ جنسي
من أحد الحُراس في السِجن وفي الحقيقة أني صُدمت من هَول ماشاهدت من قباحة وتجرد من الإنسانية وإنعدام لأدنى سِمات الَرحمة .. لست أبلغ من العمر إلاً سبعة عشر ربيعاً وأتعرض لإعتداء جنسي أدى لإصابتي بالأمراض النفسية كلها ، بدفعة واحدة أصُبت بالإنهزامية التامة التي شَلت أركان عقلي ، لا أخفيكم أني لم أغفوا ذاك المساء وأنا أبكي ، بكيت لـ ماحصل لي في ذاك اليوم وبكيت لأجل الأيام الخوالي التي يُتمت فيها وإبتعدت أمي عني وقُتل أخي ، بكيت حتى أن أحدهم فاض عَلي برحمته فصفعني لأصمت ليستطيع إكمال نومِه ، هل ترونّ فائض الحنان ؟ في السجن سترى عَجب العُجاب ، فقط إقترب .. رويداً رويداً

صباح اليوم التالي كُنت قد عزمت دفع مبلغ إدخرته من عملي كمنظف قمامة في إصلاحية السجن ،
50 ليرة إيطالية طلبهاّ أحد الحُراس ليعطيني مكان أكوسطو .. فأعطيته بسخاء كل مامعي فغدر بيّ وأوصى بحرماني من الطعام مرة أخرى بُتهمة الرَشوة .. تمضي الأيام حتى وصلني مكتوب فصرت أسعد السعداء به ، مالبثت أن فتحت المكتوب حتى قرأت رسالةً من رب عَملي يعفيني من وظيفتي في مَكتبة الجامعة فتقبلت الأمر ثانية .. في السجن ياعزيزي ستتعلم أن تتقبل الأمور فلا مفر من الواقع .. ستتألم نعم هذا ما يريد السجان أن يُحققه في نفسك .. الألم يُريدك أن تتألم ليصلح حالك

وُجهت لي تهمة التزوير وتمت المصادقة عليها في نهار الثاني من شباط من نفس العام ، قرأت مكتوب الحكم ورحت أقرأ .. أبحث عن أرقام باحثاً عن مِدة محكوميتي أو سعر كفالتي لإخراجي من السجن حتى قرأت مالم أرد ، السجن لـثلاثة أعَوام وكفالتي تبلغ 20 ألف ليرة إيطالية ..
في نفس اليوم طلبني أحد الحُراس لمقابلة أحد الزوار ، لا أستطيع أن أنكر أني سّعدت بذلك كثيراً ، حتى قابلت صديق أبي ، الذي كنت أعلق خيرة آمالي بهِ كونه أوفى أصدقاء أبي ، الذي وَصاه أبي بحُسن معاملتي والنفقة علي عند الحَاجة .. بدأت المحادثة بأسمى عبارات الإحِترام والمواساة ، حتى ظننته رسول السلام ، القادم لإنقاذي من حِبال القهر والتسلط ، وجدني في حديثي عاطفي المبتغّى ، كتابي كان مفتوح .. قلت لهَ يا أبي أود الخروج من هناً .. ثمن كفالتي بلغ مابلغ وأنت أهُل السند والعَون ، فما خيبت من تمسكَ بلحيتكَ الوضاءةَ ، فناشدتهَ حتى ألحّحتُ عليه فضجر .. عَلمت أنه
ليس بمرادهِ مساعدتي وإخراجي من السِجن ، فلمحت في حديثهِ همزاً ولمزاً إلى أمرِ لم يخُطر على بالي إطلاقاً

صديق والدي يعرضُ عليَ أن يزودني بالمخدرات لأبيعها في السجن ، صُدمت من ماسَمعت وعلمت أني ونفسي لا ثالث لناً ولا مُنجي لناً ، في حقيقة الأمر أني صُدمت وتعرضت للحزن العَميق لما سمعتهِ ، أعطاني وعداً أن يُخرجني من السجن خلال ستة شهور ، إذا ما وافقت على ماطلب ، وحملنيّ المسؤولية وأيضاً رغم أنه أرهبني من خطورة العمل إلاً أنه أبدى لي محاسنهِ ، فتنني بهِ وأغراني حتى كِدت أن أوافق على ماطلب حالاً ، تصبرّت حتى أنهى الحديث معي بمُهلة للتفكير مدتها ثلاث أيام وبعدهاً لن يذكرني حتى بزيارة ترضية أو مواساة ، أذكر أنه قال لي بالحرف الواحد : ستكون طَعاماً لِمَن لا طَعام له ، إنتهى حديثهِ معي والوقت يمضي وإجابتي ستحضر له بعد أيام

أصبحت في اليوم التالي أحكَ جسدي بعد أن فتكت بي الصدفية وتصاعدت آثارها ، لا طبيب ولادواء
حارس يبتغي رشوة مقابل تصعيد أمر بالعِلاج في مشفىّ الإصلاحية ، حالتي الصحية تَتَدهور حتى عُرض أحدهم علي أن أستخدم مُخدراً من نوع فعال ، كما قال لي أني لن أشعر بأي شئ ، سوا العافية .. فلم أعلم أن ما عُرض علي كان حِفنة من مخدر فاسد أردتني طريح الفراش لأربعة أيام .

ملاحظات :
* أتعمد عدم الإفصاح عن إسم الراوي حفاظاً على غموض الأحداث
* جميع أسماء المناطق والأسماء المستعارة هي أسماء حقيقية المصدر
* القصة من وحي الخيال ، لا تمد للواقع بأي صِلة

اترك ردّاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *