هذراتٌ وكلماتْ من هُنا وهناك
هل تنتقل العقائد والمبادئ عن طريق الكروموسومات ؟
في هذه الفترة التي بدأت أحط فيها في العشرينات ، أفكر في بدأ صقل هذه الشخصية ، تفكرت كثيراً مالذي أحاول صقله ، هل أحاول صقل شخصية لم أختر أن ألبسها ولم أختر أن أعيش فيها ، ليست ضيقة المقاس وليست بَحبوُحَة ، بل هي بطريقة ما أصبحت معقدة وتثير التساؤل ، عندما أفقت من غيبوبة العدم في تسعينيات القرن الماضي ، كنت ألعب بالليغّو ، مُجسمات السيارات والطائرات ، كنت دائماً أختار التصميم العسكري في هذه الألعاب ، حتى طريقتي في اللعب كانت عبارة عن محاكاة لحروب أستنبط فكرتها من المسلسلات الحربية التي كنت أدمن مشاهدتها وكانت أمي دائماً ما تعترض وتتذمر بحجّة أنها تحمل مشاهد قاسية
لم أكن أعطِ إهتمام لهذا الأمر ، كنت كذلك أشترِ الملابس التي تحمل الطابع العسكري ، أتحدث هنا عن بداية مراهقتي ، أشتري دائماً البسطار العسكري ، وأختار النظارة الشمسية التي كنت أسميها ‘ نظارة الجيش والعسكر ‘ ، حتى أقرب الصورة للقارئ ، أنظر نظارة المرحوم ياسر عرفات التي ظهر بها في بداية إنتشار أيديولوجِية منظمة التحرير الفلسطيني ، كانت نظاراتي نسخة كربونية عنها ، وجدت نفسي أتتبع أحد المحللين العسكريين على قناة الجزيرة الإخبارية ، يُدعى العميد صفوت الزيات وأنا أؤكد لك أني لم أعد إلى محرك البحث جوجل لأستذكر إسمه
كنت طفلاً على مشارف المراهقة عندما كنت أستمتع بسماع نشراته التحليلية ، وبدأت حينها أبحث عن أسماء الأسلحة وأسماء أشهر المعارك في تاريخ العالم حتى وصل الأمر إلى أنّي أصبحت أرسم بطريقة بدائية .. نماذج لسفن حربية وطائرات حربية ، وألونها بالألوان الزيتية ومازلت أحتفظ ببعض الرسومات في الدولاب
على كل حال سارت الأحداث بطريقة دراماتيكية تحبس الأنفاس ، حتى وجدت نفسي أمام كرسي الحلاقة ، أقول له ‘ إحلق لي كما المارينز الأمريكي ‘ وبطبيعة الحال لست أحب التغيير كثيراً في حياتي ، لكن مازلت ألتزم هذه التسريحة العسكرية حتى الوقت الراهن ، ولأقرب الصورة أكثر ‘ أنُظر تسريحة براد بيت – فيلم الغضب ‘ ، الأمور في منتصف المراهقة ، ولم أكن أعّي ما أمر فيه ، لكن على الأرجح كان ذلك عالقاً بذاكرتي حتى اللحظة
عندما بدأت المرحلة الثانوية في دراستي ، كنت أقرأ دائماً الأخبار السياسية ، العسكرية ، وأربط الإقتصاد بالسياسة ، لك أن تتخيل شاب خاوِ يقرأ عن ‘ حجم الإنفاقات العسكرية للولايات المتحدة ‘ وأقارنها بنظرائها كالصين واليابان ، كانت هذه الأخبار تشدني للغاية وأحاول تحليل مايحدث لكن بطبيعة الحال كانت الخبرة تنقصني كثيراً ، لم أكترث حتى تلك اللحظة لشيئ ، كما لا أود أن أنسى أني كنت أميل للمعزوفات العسكرية والأغانِ العسكرية ، وبدأت أستمع حينها لأغنية أُمِنا فيروز ‘ الغضب الساطع ‘ وكانت أجمل ما سمعت هي أغنية الملحن والممثل اللبناني محمد سلمان ‘ لبيك يا علم العروبة ‘ ، حيث كانت هذه الأغنية هي الموقد لـ الكروموسوم المناديّ بالقومية العربية بداخلي ، أصبت بشيئ ما بالهلوسة تجاه القضية الفلسطينية وقضية الجنوب اللبناني – الحرب الأهلية اللبنانية ، أمقت هذا الكروموسوم الذي إستيقظ بطريقة مفزعة وأفزعني ذلك الإهتمام المريب بالقضايا العربية
لقد كان إستيقاظه هو جرس أفاقني لما كان قد حدث معي منذ الطفولة ، عندما كنت على مشارف المرحلة الثانوية في دراستي ، كنت ناشِطاً سياسياً عبر الفيسبوك ، إشتريت حينها هاردسيك بسعة مئة وعشرين جيجابايت .. أهلك جيبتي لكن كان ذلك مهراً سخياً للأفلام الوثائقية التي كنت أضعها على الهاردسيك بصورة مستمرة ، كيفية تصنيع قنابل يدوية ، مجلدات تحوي أسعار الأسلحة الشخصية – الرشاشات الثقيلة – الحيل العسكرية وكيفية تنفيذ تكتيكات الدفاع والهجوم في الحروب البرية والبحرية ، بالنسبة إلى والدي كان متديناً للغاية ويمارس طقوس تدينه بعمق بليغ ، كان يحب رائحة البارود هكذا أحسست لكنه لم يحمل سلاحاً في يوم من الأيام ، لكنه كان داعماً وبصورة كبيرة لقضايا مناهضة الإستعمار ووحدة الدول العربية وبطريقة ما فسر هذا التوجه الفكري لوالدي ، وجود كروموسوم عضو بحزب البعث العربي ، وكرمومسوم آخر ينادي بالدولة الإشتراكية وتحطيم آوجه الدولة الرأسمالية ، كذلك والدي لم يكن بعيداً عن الجهاد الذي كان يستمد فرضياته وأحكامه من نفس التيار الديني الذي كان يتبعه ، كان مخلصاً للغاية لدينه ، هذا جعلني أطلق على والدي ‘ مؤسس حركة الجهاديني ‘ بحيث كان يهتف دائماً بالرحمة على شهداء الأمة الإسلامية وبالتحديد أحمد ياسين – عمر المختار – وغيرهم وهذا جعلني بطريقة ما أتأثر للغاية بهذه التجربة التي أكرر أنها ‘ جهادينية ‘ مستنبطة من ممارسة العقائد الدينية بعمق
مؤخراً وبعد أن إنتهيت من الدراسة الثانوية وإنتقلت للدراسة الجامعية ، حاولت التمرد على هذه الشخصية العسكرية التي أحملها ، بطريقة خجولة للغاية ، وضعيفة ، ودون وجود بديل ينوب عن هذه الشخصية ، كنت كثيراً وحتى اليوم أشعر أني لم أختر شخصيتي بل أنها فُرضت علي بطريقة ما تنافي المنطقية ، وأن القطار قد فاتني بالفعل لخّلق شخصيتي التي أريد ،
اليوم أنا أحاول الإجابة على السؤال : هل أستطيع فصل النفس عن الشخصية ؟
بعد كل هذه السنين التي مارست بها المشية العسكرية وغّنيت : يا شعبنا العربي وعلقت بها صور المرحوم صدام حسين وجمال عبد الناصر على جدار غرفتي ، وبعد كل هذه الطقوس التي مارستها بكل إحترافية وكان تسري بطريقة خفية من خلفي
هل فعلاً أستطيع أن أقف قليلاً لأخلع هذه الشخصية ؟ أقف لأوقف المذياع الذي غنىّ لعشرين عاماً : الله أكبر فوق كيد المعتدي ؟
وأواصل السير بدون شخصية ، فقط للقليل من الوقت حتى أصنع شخصية جديدة من إختياري ، شخصية لم يُفرض علي ممارستها بطريقة لا منطقية ، الآن سأوضح المقصود بالطريقة اللامنطقية ، أقصد هنا أني كثيراً ما أفكر هل قام والدي بنقل عقائده ومبادئه وأفكاره إلى إبنه جبراً وعن قصد ؟ بعد تنقيح السؤال يكون كالتالي : هل تنتقل المبادئ والعقائد عن طريق الكروموسومات ؟ مؤخراً قمت بمراجعة تاريخ العائلة ، وجدته تاريخاً مناضلاً ويدعوا للمفخرة بعض الشيئ خصوصاً على صعيد القضية الفلسطينية ، وأيلول الأسود ، وغيرها ، هل أكون طفرة ، ساعدتها العوامل البيئية والمجتمع وطريقة النشأة في حصولي على هذه الشخصية الغامضة ؟ ليدلنّي أحدكم على السبيل للخلاص من هذه الشخصية السوداء .
لم أكن على الإطلاق قادراً على الكتابة وإستذكار هذه الجوانب الدقيقة في ماضي حياتي لولاّ موسيقى المؤلف البريطاني : ستيفّين برايز ، التي أسماها ‘ نورمان ‘ ولعله فيها يحاول إحياء إسم والدته التي رحلت عن الحياة بسبب سرطان الرئة مؤخراً ، ولعلي كذلك أشارك بهذا الإقتباس النخبوي حول أطروحتي ، الذي كتبه الروائي المصري محمد المنسي قنديل
” هؤلاء العسكر يبحثون دوماً عن عدو ينتصرون عليه ، ولأنهم عاجزون عن الإنتصار على العدو البعيد الرابض عبر الصحراء ، فهم ينتصرون علينا ، نحن هدف سهل بالنسبه إليهم “
محمد المنسي قنديل